الأربعاء، 21 مايو 2025

شريف محمد جابر

 

شريف محمد جابر

ولد في مدينة عكا من بلاد الشام، حصل على إجازة في الأدب واللغة العربية إلى جانب إجازة في التعليم والتدريس والإرشاد من جامعة حيفا، ثم حصل على الماجستير في الأدب العربي من الجامعة نفسها، وكانت أطروحته بعنوان "تفسير القرآن عند الحكيم الترمذي" (2021). وهو الآن طالب دكتوراة في تخصص التفسير في جامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية.

له من الكتب: "الهوية والشرعية" (2011)، و"الخطاب المريض" (2015)، و"مفاتيح لفهم السنّة" (2018/2020)، و"الذرّة التائهة" (2021)، و"رسائل إلى سلمى" (2021)، و"العقائدية القاصرة" (2023)، و"منطق القرآن" (2023)، "ولماذا هجرنا القرآن في بناء أصول الإيمان؟" (2024). إلى جانب عدد كبير من الدراسات والمقالات المنشورة في مختلف المواقع على الشبكة.

عن ضرورة التوازن في النقد: بين التراث والحداثة

 

أتفهّم جيّدا موجة نقد "الدولة الحديثة" التي تتزايد بين الأجيال المسلمة الجديدة بتأثّر غير واعٍ بتيارات يسارية وفرانكفورتية وأناركية وليبرتارية وإيكولوجية غربية حديثة، لكني أجدها مبالغًا فيها جدًّا. وقبل أن يُقدّم لي بعضهم دروسًا عن خطورة الدولة الحديثة أحب أن أقول إنني كتبت منذ سنوات طويلة مقالات في بيان أزمتها ومشكلاتها وآثارها الخطيرة على وعينا واجتماعنا الإنساني، ولكنّي أدعو الشباب إلى التوازن، فإلى جانب نزعة نقد "الدولة الحديثة" هناك نزعة أخرى متنامية تدعو للعودة إلى "التراث"، والمقصود به تحديدًا ما بلغه هذا التراث الإسلامي في العصور المملوكية والعثمانية الأخيرة.

 

وما أعتقده أنّ علينا أن نكون متوازنين في نقدنا وأخذنا، فلا الدولة الحديثة كلّها "كخ" ولا التراث كله زاهر. وسأضرب مثالا لقضية بلغت من الشهرة حتى صرتَ تجدها تتردّد على ألسن الشباب كلّما همس أحدهم بذكر الدولة الحديثة، وهي قضية "القانون" الخالي من الروح ومن البعد الأخلاقي، بينما "الشريعة" نظام أخلاقي روحي شامل، وليست مجرّد منظومة قوانين تنظّم العلاقات بين الناس، وهي تهدف إلى تهذيب الإنسان وبناء شخصيته وتحقيق القرب من الله. ولهذا السبب – ولأسباب أخرى – يرفضون "تقنين الشريعة".

 

حسنًا هذا جميل، وأنا أتفق تماما مع هذا الفارق المهم بين الشريعة والقانون، ولكن دعونا ننظر إلى الفقه الذي أنتجه المسلمون عبر قرون طويلة، وفي وعي كثيرين أن مجرّد توجيه أي نقد للمنظومة الفقهية التقليدية يُعدّ "جريمة"، هو خطّ أحمر لا ينبغي تجاوزه، هو من اللامفكَّر فيه أصلا، فالتوجه الآن هو إبراز بدائعه وفضائله وجمالياته وحلوله فحسب، ولا شكّ أنها كثيرة جدّا، ولكن حتى من داخل التراث نفسه كانت هناك نقود عديدة للمنظومة الفقهية عبر مختلف العصور، ولعلّ أهمها وأوسعها – وهنا المفارقة – ما صاغه الإمام الغزالي في كتابه المهم "إحياء علوم الدين"، والذي استفاده من علماء سابقين من التيار الروحي والمتصوّف في الإسلام.

 

المفارق في الأمر أن ما اعتبره الغزالي أصليّا ومتحقّقا في عصره من علم الفقه هو كونه قانونًا يحتاجه السلطان لسياسة المجتمع وضبطه والفصل في الخصومات (وهو أشبه شيء بالقانون الحديث وطريقة عمل الدول المعاصرة وإنْ لم يكن مطابقًا)، أمّا الذي انتقده من صورة الفقه في عصره وشدّد على نقده وبنى كتابه كلّه عليه فهو خلوّ هذا الفقه – بصورته في كتب الفقه – من الجانب الروحي أو "الباطني" بعبارته، أي تحوّله إلى شكليّات بعيدة عن جوهر الفقه وحقيقته!

 

وهذه الصورة مفاجئة تماما لمن اعتاد على ترديد عبارات وائل حلاق وأمثاله ممّن لم يفهموا تراثنا الإسلامي واعتمدوا على فهم سطحي لدى المقارنة بين الشريعة والقانون الحديث، اتجه بهم إلى المفاصلة شبه التامّة بين الأمرين، كما لو كانت الحداثة ولادة جديدة وقطيعة معرفية وتاريخية عن التراث، وهي الخطيئة الكبرى التي روّجها هؤلاء الأكاديميّون المترفون في مكاتبهم المطلّة على الحدائق الأمريكية ذات البهجة!

 

والواقع أنّ هناك جوهرًا في القانون الحديث هو استمرار لتقاليد البشرية (وفي قلبها العالم الإسلامي) ومنه جانب الإلزام من جهة السلطة، مع كل الأمراض التي فيه والتي تحتاج إلى علاج، لكن فكرة القطيعة التامّة والانفصال التامّ عن منطق الفقه والشريعة هو على الورق فحسب، وتأثّر هذا القانون الحديث بالفقه الإسلامي وما قبله وما بعده، أو تأثّر الفقه والقانون الإسلامي عبر القرون الأخيرة بالقانون الأوروبي جاء بصورة تراكمية متدرّجة، لكنّ لحظة الاستعمار جاءت بمباغتة عسكرية هي التي أظهرت الفوارق الواضحة. والخلاصة: نعم هناك فوارق جذرية، لكن المفاصلة التامّة غير دقيقة.

 

كما أنّ هناك جانبًا من الفقه القديم فيه خلل واجهه كبار الأئمّة والفقهاء كالمحاسبي والحكيم الترمذي والغزالي وأبي شامة والشاطبي وغيرهم من الأئمة الذين تطرّقوا إلى مشكلات في علم الفقه وقدّموا لها بعض المعالجات، وكانت محاولة الغزالي أبرزها.

 

وأترككم أخيرا مع هذين النصّين للإمام الغزالي رحمه الله، الأول حول الفقه باعتباره فنّا لمعرفة طرق السياسة والحراسة وقانونًا ترجع إليه السلطة في إقامة العدل بين الناس، والثاني حول التقصير في الجانب الأخلاقي والروحي في كتب الفقه.

 

يقول رحمه الله في بيان العلاقة بين السلطة والشريعة، في عبارة مشرقة تهدم كثيرا من التصوّرات المعاصرة التي تنتسب إلى التراث زورًا وبهتانًا وتفصل بين السلطة والشريعة:

 

"فاعلم أنّ الله عز وجل أخرج آدم عليه السلام من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومنها إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم إلى العرض ثم إلى الجنة أو إلى النار، فهذا مبدؤهم وهذا غايتهم وهذه منازلهم.

 

وخلق الدنيا زادًا للمعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود، فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء، ولكنهم تناولوها بالشهوات فتولدت منها الخصومات، فمسّت الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلّم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا، ولعمري إنه متعلق أيضا بالدين لكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا؛ فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا.

 

والملك والدين توأمان؛ فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان، وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه، وكما أنّ سياسة الخلق بالسلطنة ليس من علم الدين في الدرجة الأولى بل هو معين على ما لا يتم الدين إلا به، فكذلك معرفة طريق السياسة، فمعلوم أنّ الحج لا يتم إلا ببذرقة تحرس من العرب في الطريق، ولكنّ الحج شيء وسلوك الطريق إلى الحج شيء ثان، والقيام بالحراسة التي لا يتم الحج إلا بها شيء ثالث، ومعرفة طرق الحراسة وحيلها وقوانينها شيء رابع".

 

أمّا النصّ الثاني فهو يمثّل جوهر النقد الذي قدّمه الغزالي لحالة علم الفقه في عصره، تحت باب "ما بُدّل من ألفاظ العلوم"، وكان اللفظ الأول هو "الفقه"، قال رحمه الله في "الإحياء" أيضًا:

 

"اللفظ الأول: الفقه؛ فقد تصرفوا فيه بالتخصيص لا بالنقل والتحويل إذا خصصوه بمعرفة الفروع الغريبة في الفتاوى والوقوف على دقائق عللها واستكثار الكلام فيها وحفظ المقالات المتعلقة بها، فمن كان أشد تعمقا فيها وأكثر اشتغالا بها يقال هو الأفقه. ولقد كان اسم الفقه في العصر الأول مطلقا على علم طريق الآخرة ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدات الأعمال وقوة الإحاطة بحقارة الدنيا وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة واستيلاء الخوف على القلب ويدلك عليه قوله عز وجل: ]ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم[ (التوبة: 122). وما يحصل به الإنذار والتخويف هو هذا الفقه دون تفريعات الطلاق والعتاق واللعان والسلم والإجارة فذلك لا يحصل به إنذار ولا تخويف بل التجرد له على الدوام يقسي القلب وينزع الخشية منه كما نشاهد الآن من المتجردين له".

 

وقال قبل ذلك في مقدمة الكتاب التي بيّن فيها الباعث على تأليفه وأقسامه: "فأما علم طريق الآخرة وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا فقد أصبح من بين الخلق مطويا وصار نسيا منسيّا. ولما كان هذا ثلما في الدين ملمًّا وخطبا مدلهمًّا رأيتُ الاشتغال بتحرير هذا الكتاب مهمّا؛ إحياءً لعلوم الدين، وكشفًا عن مناهج الأئمة المتقدمين، وإيضاحا لمباهي العلوم النافعة عند التبيين والسلف الصالحين".

 

ثم قال بعد كلام: "فأذكر فيه خفايا آدابها ودقائق سننها وأسرار معانيها ما يضطر العالم العامل إليه بل لا يكون من علماء الآخرة من لا يطلع عليه وأكثر ذلك مما أهمل في فن الفقهيات".

 

وتلك هي الزبدة: "وأكثر ذلك مما أُهمل في فنّ الفقهيات" كما قال رحمه الله، فهو يقرّ بقصور كتب الفقه عن هذا الذي هو أساس طريق الآخرة، والذي نزعم اليوم أنّه قصور خاص بقانون الدولة الحديثة. بل يرى الغزالي القصور القديم هذا "ثلمًا في الدين ملمًّا وخَطبًا مدلهمًّا"، أي أن هذا التراث الذي نقتصر اليوم على مديحه ونتهيّب نقده كان فيه بعض عوامل تأخّرنا وتخلّفنا، وقد هبّ من علماء التراث الكبار – كالإمام الغزالي وغيره – من حمل على عاتقه مهمّة التجديد بالعودة إلى الأصول، وهي ما كان عليه السلف المتقدّمون من الأئمة، باعتبارهم حملة النموذج المعياري المتوارث عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم في فهمنا للدين وتفعيله في الواقع.

 

19 أيار 2025

شريف محمد جابر

إسطنبول